القصر الملكي (حريب ) الخاص في مملكة قتبان من خلال الادلة الاثرية:
ظهرت هذه المملكة إلى حيز الوجود في القرن الثامن قبل الميلاد، وظلت تؤدي نشاطها الحضاري حتى تاريخ (175م). أما موقعها فتقع جنوب شرق مملكة سبأ وكانت تسيطر على وادي بيحان وحريب. كما اتسعت هذه المملكة في فترات لاحقة لتغطي أراضي واسعة فامتدت من الناحية الشمالية الغربية وصولاً إلى حدود مدينة ذمار وجنوباً إلى حدود مدينة عدن كما سيطرت على مضيق باب المندب( ). وقد اتخذت هذه المملكة مدينة تمنع عاصمة لها ( الخريطة : 2).
قصر (حريب) "ح ر ب " :
إن تسمية القِتْبانيين لقصرهم بالأسم "حرب" (حريب ) يتوافق مع ما يحمله اللفظ من دلالة دينية وتشريعية ترتبط بقداسة المكان وكرامته ورفعته العظيمة، وهو ما تؤكده معاجم اللغة العربية من أن "المحاريب" أكرم مجالس الملوك وأرفعها وأشرفها( ).
أما موقع القصر فلم تستطيع البعثة المنقبة في مدينة تمنع تحديد موقعه بالضبط من تلك المباني السكنية والدينية التي تغطي مساحة المدينة بشكل كلي. ومع ذلك نستطيع القول بأن قصر حريب قد شيد في البداية بمدينة تمنع (هجر كحلان حالياً) العاصمة الأولى لمملكة قتبان، وبعد نقل العاصمة إلى موقع هجر بن حميد فربما شيدوا قصر أخر يحمل نفس الأسم (حريب) لكونه الرمز السياسي للمملكة وسلطة الحكم.
اولا : قصر مملكة قتبان من خلال الكتابات المسندية:
وقد ورد ذكر هذا القصر الملكي في اكثر من نقش بأسم "ح ر ب" (حريب) منها النقش H 2c) )- (CSAI I, 6( ) الذي نصه: "(1)نب ط م / ي ه ن ع م / ش ه ر / ه ل ل/ و ب ن س / م ر ث د م / م ل ك و/(2)-ق ت ب ن / ب ر ا و / و س و ث ر/ و س ش ق ر / م و ر ت ن / ي ف ع ن / م و ر ت / ب ي ت س م / ح ر ب / و ب ا ر س / ب ح ر م"
1 –نبطم \ يهنعم \ بن \ شهر \ هلل \ وبنس \ مرثدم \ ملكو \ 2- قتبن \ براو \ وسوثر \ وسشقر \ مورتن \ يفعن \ مورت \ بيتسم \ حرب \ وبارس \ بحرم"
والمعنى العام: نبط يهنعم بن شهر هلال وابنه مرثد ملوك قتبان قاموا ببناء وتأسيس البوابة المسماة يفعان بالقصر حريب (وكذلك تشييد) البئر المسماة بحر( ).
كما ورد أسم قصر "ح ر ب" حريب في العملة الفضية التي سكت في مملكة قتبان خلال فترات قديمة،وتتميز عن العملة التي سكت لاحقاً باحتوائها على رأس رجل عربي. وفي القرن الأول الميلادي نجد الملك ال غيلان يسك نقود أخرى ذهبية تحمل أيضاً أسم القصر (حريب)، وعملة أخرى سكت في عهد الملك فرع كرب يهوضع، وتحمل هذه العملة اسم حريب على شكل "مون جرام" مميز ذات طابع فني جميل( )، الوجه الأول: نقش عليه رأس رجل مجعد الشعر حوله اطار من النقاط، والوجه الثاني: نقش عليه رأس رجل ملتح ، وشعره ملفوف إلى الخلف وفي اليسار يوجد الحرف "ش"، وعلى اليمين "منوجرام" لحرفين متشابكين، أما في الأسفل فنرى الكلمة "ح ر ب" (حريب )اسم القصر الملكي لقتبان، ويرجح أن تاريخ هذه العملة يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد(اللوحة: 20)،وبالتالي فوجود أسم القصر حريب في العملات يجسد لنا أهمية القصر الملكي كما ذكرنا سابقاً من ناحية اقتصادية،ومن جانب اخر فان القصر كان يوضع في حماية المعبود وتقدم النذور لأجل ذلك (CIAS 47)،وكانت النقوش تزين جدران القصور وتحمل رموز دينية تعبر عن المعبود الحامي للقصر( ).
أما تاريخ يناء القصر الملكي يعود إلى القرن السادس ق.م، ويعود تاريخ بناء الساحة والمدخلين إلى حوالي القرن الثالث ق.م تقريبا، أما الجزء الشرقي فيعود تاريخ بنائه إلى القرن الأول ق.م ، ويرجح أن القصر تهدم بسبب حريق تعرض له أثناء الحملة السبئية على قتبان التي تمت في حوالي (160م ) أو (200م)، وبعد ذلك التاريخ هجر القصر نهائياً ( ).
كما نجد في النقش (العادي:14)( )قصر أخر يحمل نفس أسم القصر الملكي "ح ر ب" (حريب)، يقع في مدينة مريمة "حريب حالياً" التابعة لمملكة قتبان، وهو خاص بأقيال أو حكام المدينة. وفي حنو الزرير قصر (حرب) وفي هجرن حميد قصر (حرب ) للمزيد انظر: الحاير: انور محمد يحيى- القصر في اليمن القديم بين الخبر والاثر،رسالة ماجستير ،جامعة صنعاء 2014م ،80 ، 81 ، .
ثانيا : قصر مملكة قتبان من خلال البقايا الاثرية والتنقيبات :
وتم الكشف من خلال التنقيبات على عدد من المباني الضخمة منها القصر الملكي حريب الذي ذكر في العديد من النقوش المسندية كما جاء اسمه مكتوب على العملات القتبانية كما سلف ذكره.
أ-المبنى (TT.1) في مدينة تمنع:
أظهرت التنقيبات أن تخطيط القصر الملكي في تمنع عبارة عن بناء مستطيل الشكل يبلغ مساحته(48×36 م) ويتكون من عدة طوابق خشبية محشوة باللبن الذي يقوم على قاعدة حجرية ،يتمركز باتجاه محوري شرقي – غربي ويقع في الحي الشمالي الشرقي من المدينة (خريطة: 2) وكذلك (اللوحة: 32)،ولم يعرف بشكل دقيق وظيفته والذي أطلقت عليه البعثة أسم " صرح تمنع الكبير " وقد قسم المبنى إلى قسمين :
1): وهي الأساسات المتمثلة بالكتل الحجرية الضخمة المتواجدة شرقا والمتميزة بوجود المساند والفجوات .
2) : الفسحة (ألصرحه ) المستطيلة للبوابة المتواجدة غربا والتي ربطت بها المخازن ، ويمكن الدخول للفسحة (ألصرحة ) من خارج المبنى من خلال مدرجين قصيرين يتواجدان شمالا وجنوبا ومنها يمكن الصعود إلى سطح المبنى ، لكن بعد المرور بمعبد يضم ثمان مساند ، وتظهر الأساسات الشرقية للقسم (1) الذي رمز اليه (ب A) شبيه بالأضلاع المتوازية بشكل شبه مستطيل (بعرض 32 مترا تقريبا وبعمق 25 مترا وبارتفاع 5 أمتار ) ،كما يوجد للمبنى a مدخل تم تثبيته على المسند الرئيسي للواجهة الغربية تسبقه درج بثلاث صفات معمارية ،يتكون من منصة (7,80×3,30) ،تضم ثمان أساسات أحادية الحجر بشكل متوازي كما تكشف للبعثة الأخاديد التي يمكن مشاهدتها في الجانب الغربي ، فأنها تستخدم كمساند لثمانية أعمدة مستطيلة المقطع (55×40 سنتمترا) للبوابة مدخل أنيق. وتلك الأعمدة كانت تتمتع بارتفاع كبير ربطت فيما بينها بواسطة عتبة مشتركة استخدمت هي الأخرى كقاعدة تستند إليها الأعمدة الرابطة والمستندة كذلك إلى الجدار المواجه للمبنى(A) تكون منها البوابة التي تؤدي واجهاتها الثلاث للدخول إلى الفنائين المحيطين بالمبنى( ). (اللوحة : 32) ويرجح الباحثون الفرنسيون أن المبنى يشبه مبنى القصر الملكي في شبوة من حيث التخطيط .
كما يوجد مبنى في الجهة الغربية أعطي له الرمز (B) الذي يأخذ الشكل U (24×37 مترا) ، يستند على المبنى (A) (اللوحة :33) وبتتابع هذا المبنى الى جهة الجنوب ، يتبين أن التتابع والتسلسل للمساند يأخذ بالظهور في الجهة الشمالية لسبعة أمتار تقريبا ، خالقا بذلك مساحة كافية لبناية صرح مدرج يسمح للمدينة أن تطل على فناء (صرح ) المبنى ، وتحد الجهة الغربية لهذا المبنى سلسلة من الغرف الطويلة وبشكل متوازي استخدمت مخازن ،لم يبق من الدرج سوى آثاره لكن التقطت له صورة من حملة التنقيب عام 1951م وهو بحالة جيدة ،والبناء يمتد إلى 11 مترا ويتكون من مدرج ينتهي ببلاط (صرح ) مرصوف يستند عليه مدرج أخر أكثر ضيق ويؤدي رصيفه العلوي إلى الرواق الشمالي للفناء (للصرح ) ،وإلى الجانب الشرقي من الدرج يوجد حوض ضخم أحادي الحجر(اللوحة : 34)،كما يوجد مدرج أخر صغير الحجر تم لصقه بالقرب من محراب محفور في الجدار الخارجي جنوب المبنى (B) يسمح بشكل غير رسمي بالدخول إلى فناء (صرح ) المبنى ويكون ذلك عبر مروره بالفناءات (الصروح ) الجنوبية للمبنى( ). (اللوحة :32).
أن حفريات البعثة الأثرية عام 2001م في المبنى إضافة معلومات جديدة إلى ما سبق تناوله،حيث تبين أن هيكلية البناء الحجري داخل المبنى (A) ، تدل على أساسات السطوح الداخلية المرتفعة من خلال الكشف عن عمقها النسبي الذي لا يمكن له أن يكون قاعدة سائدة لهيكلية بناء تتكون من مستويات عدة (طوابق) ، كما كان مفترض سابقا، بل أنها من الممكن أن تكون أساسات سائدة لمستوى واحد (طابق واحد ) ، أو على الأكثر لمستويين (طابقين ) . الملاحظة السابقة هي التي اعتمد عليها الفريق الأثري واستند إليها للتأكيد أن المبنى (TT.1) يختلف عن القصر الملكي في شبوة الذي يتميز بما هو معروف لدى البعثة بهيكلية متعددة الطوابق (عمارة شاهقة)، وأن مساحة كبيرة من البلاط المبنى على السطح المداس (مكان السير) ، والملتصق بالجانب الشمالي من المبنى (A) ، يمكن أن تكون قد استخدمت لإقامة أنشطة ثقافية (اللوحة : 35) ففي هذا الموقع بالذات تم العثور على مسطح كبير مربع الشكل محاط بساقية للماء وبئر بفتحة مربعة الشكل (اللوحة : 36) حيث يحتمل أن يكون الماء الآتي من الحوض الكبير أحادي الحجر من مادة الكلس (يأتي هذا من فناء المبنى B) مستخدما في هذا المكان لغرض التنظيف أو لأغراض شعائر دينية كإقامة الأضاحي. أن اكتشاف هذا الموقع كموقع للأنشطة الثقافية وارتباطه بصرح المبنى (TT.1) وبركة الماء إلى جانب اكتشافات أخرى لآبار ترتبط بمعابد أخرى في تمنع (بئر معبد المعبود اثيرت وبئر معبد راسيفوم (راصفم) في مقبرة حيد بن عقيل )، ويمكن أن يكون شاهدا على وظيفة هذا المبنى (TT.1) بوصفه مبنى دينيا أي كونه معبدا .
أن العثور على بعض الأوعية (جرار) لتخزين المؤن في أحد مخازن المبنى (B) ، تسمح لنا بأن نحدد استنادا إلى ما كشفته الكتابات القديمة التي تم العثور عليها تاريخ بناء الـمبنى (TT.1) والتي يمكن تحديدها بالفترة الواقعة بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي ، كما تؤكد البعثة أن المبنى كان معبدا (يحتمل أن يكون المبنى المشهور باسم حطيب (حريب) قد خصص لعبادة المعبود عم ) ،واعتمد الفريق الأثري على مستوى (السطح ) لهذا المبنى ارتفاعا منخفض مقارنة بالكثير من مستويات القصور الملكية. ويؤكد الفريق الأثري مرة أخرى ان وظيفة هذا المبنى الرئيسة معبد ديني، بعكس ما ذهب اليه الباحثون الأمريكان ( ).
كما إن للقصر رواق ذي ثمانية أعمدة يحيط بفناء(صرح ممرد) مبلط ذات شكل مستطيل (اللوحة : 32) ويتم الصعود إلى أعلى بواسطة سلم رئيسي عرضه (5,30م تقريبا) ينفتح على الفناء من ثلاث جهات ( ). كما كان يتبع القصر حريب بئر يسمى بحرم، حسب ما ذكرنا أنفا في النقوش .
ويشير (فان بيك ) إلى أن تاريخ قصر تمنع يعود إلى القرن السادس ق.م، ويعود تاريخ بناء الساحة والمدخلين إلى حوالي القرن الثالث ق. م. بينما البناية الشرقية يعود تاريخ بنائها إلى القرن الأول ق. م،ويحتمل إن القصر قد تهدم بسبب حريق شديد تعرض له ربما إثناء الحملة السبئية على قتبان التي تمت في حوالي(160-200م). بعد ذلك التاريخ هجر القصر . ويبدو أن المكان الذي نقبت فيه البعثة الأمريكية في وسط تمنع على أساس أنه معبد "عثتر" ما هو إلا قصر ملكي للملك (شهر يجل) حسب رأي بريتون واستنادا إلى النقوش المكتشفة والتشابه الكبير بين مخططه ومخطط قصر شقير في شبوة والتي تؤكد على أن وظيفة هذا المبنى ليس معبدا وإنما هو قصر ملكي يتكون من بناية وسطية وأمامها في الجهة الغربية مبنى ذي أروقة يحيط بفناء مبلط ، ويدخل إلى هذا الفناء عبر درج ضخم تقع في الجهة الشمالية ، ويؤدي إلى البناية درج يعلوه رواق ذو ثمانية أعمدة ( ).
من خلال التنقيبات الأثرية اتضح أن هذه المباني المعمارية قد رممت مرات عديدة تؤكد النقوش بعض هذه الترميمات ،كما اتضح أنها تشمل على ممرات (دهاليز) مركزية بواسطة عدة فواصل جداريه وتحتوي على سلالم داخلية تشير إلى أن هذه المباني كانت مكونة من أكثر من طابق . جميع هذه القصور شيدت جدرانها الخارجية من أحجار غير مهندمة وموضوعة في صفوف غير منتظمة البناء، وفي عام (1967م) قام الانجليز بالتنقيب في عدة بيوت أخرى تقع بالقرب من مسلة شهر هلال الواقعة في سوق تمنع منها قصر مشابهة للقصور الواقعة بالقرب من المدخل الجنوبي للمدينة الأنف ذكرها، شيد هذا المبنى الأخير من أحجار مهندمة على نحو جيد ويتقدم البناء أرضية مبلطة بحجارة مسطحة كانت تحمل قديماً الأعمدة الخشبية لبوابة ضخمة، ويعتقد (وليام غلانزمان) أنه أحد المباني الحكومية لمملكة قتبان ،للمزيد انظر: الحاير: انور محمد يحيى- القصر في اليمن القديم بين الخبر والاثر،رسالة ماجستير ،جامعة صنعاء 2014م ،164 ،167 .
مع خالص تحياتي للجميع.
تعليقات
إرسال تعليق