( جرف اسعد) معبد اثري قديم في ظفار عاصمة سبأ وذي ريدان( من عجائب الدنيا القديمة) :
الجرف : تطلق في اللهجات
اليمنية على ما يكون في الجبال من الكهوف الواسعة، خاصة تلك التي تكون في أسفل
الشواهق الصخرية، أما ما نحته الأقدمون لدفن موتاهم ولأغراض اخرى، فقد سميت
بالجروف توسيعا لدلالة الجرف(الارياني: 2012، 200). يقول الهمداني : الجروف وهي من
البيوت المنحوتة في الصخر وكانت نواويس لموتاهم وهم فيها الى اليوم(الاكليل:2،
2004، 12).
( جرف اسعد):
يذكر الارياني: "جرف
أسعد" نسبة إلى الملك أبي كرب أسعد الكامل، وهو مقبرة مهمة كبيرة، منحوتة في
الصخر، وكانت مصمتة لا يهتدي إليها، ولكن صاعقة – كما يتداول الناس – ضربت المكان
قبل مئات السنين ففتحت فيه بابا ودخله الناس واستولوا على ما فيه (الارياني: 2012،
201).
وفي حقيقة الامر (الجرف) معلم اثري قديم، يقع
حاليا في محافظة إب، مديرية القفر،
عزلة بني مسلم، وموقعة القديم، في الطرف الغربي
لمدينة ظفار خبان، عاصمة سبأ وذي ريدان، على بعد حوالى (17 كم تقريبا) من موقع
القصر الملكي ( ريدان ) (اللوحة:1)، يحده من الشرق قرية (النزههة) ومن الغرب وادي ( سكا- زكا). وموقع هذا (الجرف) الاثري المنحوت في جبل يرتكز على جانبي الطريق الرئيسي لمنطقة اريان، والمطل على الوادي (اللوحة: 2
). شيد هذا الاثر العجيب في باطن الجبل الشاهق في الارتفاع، والمنحوت والمنقور داخل الجبل الصخري(اللوحة:3)
.
نعتقد اعتمادا على موقع
هذا الاثري القديم والمقدس انه معبد قديم، وله علاقة بالملك الحميري ( ابى كرب
اسعد) ان لم يكن له ارتباط ديني على افتراض ان الملك (اسعد) كان نبي. والمعبد
(الجرف) منقور ومنحوت في قلب الجبل الصخري
(اللوحة :4 )
، وله طريق صاعد (سلام) منحوت على سفح الجبل الصاعد بشكل حلزوني بديع،
ويمتد من اسفل الجبل حتى باب ومدخل المعبد(الجرف) (اللوحة: 5)
قال تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ
وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ
الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ) الأعراف : 74)، يفسر القرطبي الآية بقوله :" أي بوأكم في الأرض منازل، (تتخذون من سهولها
قصورا)، أي تبنون القصور بكل موضع ،(وتنحتون الجبال بيوتا) اتخذوا البيوت في
الجبال لطول أعمارهم، فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم " ، وهناك
تفسيرات أخرى للآية السابقة بشكل أوسع من حيث تعدد القصور أو البيوت للأقوام
القدماء : " كانوا ينحتون في الجبال بيوت ففي الصيف يسكنون بيوت الطين، وفي
الشتاء بيوت الجبال " (الحاير: 2014، 10).
يذكر نشوان الحميري عن ابى كرب اسعد قائلا : هو أسعد تبع
الكامل بن ملكي كرب بن تبع الاكبر بن تبع الاقرن، وهو ذو القرنين الذي قال الله
تعالى فيه ( اهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين) (الدخان:
37). وكان من أعظم التبابعة ومن أفصح شعراء العرب، ولذلك قال بعض العلماء فيه :
ذهب ملك تبع بشعره، ولولا ذلك ما قدم عليه شاعر العرب، ويقال: إنه كان نبيا مرسلا
إلى نفسه لما تمكن من ملك الأرض، والدليل أن الله تعالى ذكره عند ذكر الانبياء
فقال : وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد (ق:14). ولم يعلم أنه أرسل إلى قوم تبع
رسول غير تبع وهو الذي نهى النبي عليه السلام عن سبه، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم – أخرجه احمد في مسنده،(5\340). لانه امن
بالرسول قبل ظهوره بسبعمئة عام، وليس ذلك إلا بوحي من الله عز وجل (نشوان الحميري:
خلاصة السير الجامعة لعجائب أخبار الملوك التبابعة، 2009).
وقال اسعد تبع في
قصيدة له:
وريدان قصري في ظفــار ومنزلــــــــي بها اس جدي دورنا والمناهل
على الجنة الخضراء من ارض يحصب ثمانون سدا تقذف الماء سائلا(الهمداني :
الاكليل 8، تحقيق الاكوع، 1978م ، 82).
وقد اتفق معظم الاخباريين ان
التبع اليماني هو الملك اسعد الكامل هو ( ابن ملكي كرب يهامن كما تذكر النقوش
المسندية ، وملكي كرب هو كما في النقوش بن ثأران يهنعم ( وهو تبع الاكبر في كتب
المؤرخين، وثأران هو كما في النقوش ابن ذمار علي يهبر.
وجاء اسم الملك في النقش (Gar BSE)
وهو من نقوش مدينة ظفار، وحاليا على جدران احد المساجد الاسلامية في قرية (منكث)
الواقعة غرب قصر ريدان:
1-
ا ب ك ر ب / ا
س ع د / و ا خ هـ و / ذ ر ا أ م ر / ا ي م ن/ و بـ
2-
ن ي هـ و / ح
س ن / ي أ م ن / و م ع د ك ر ب /
3-
ي ن ع م / و ح
ج ر / أ ي ف ع / أ م ل ك
4-
س ب أ / و ذ ر
ي د ن / و ح ض ر م و ت/ و ي م ن ت (اللوحة:6)
المفهوم العام للنص:
اب كرب اسعد واخاه ذرا امر ايمن وابنه حسان يامن، ومعد
كرب ينعم، وحجر ايفع، ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت (الحاير: 2014،188).
كما جاء نسبه في النقش(GL 389=Res 3383)) ويشير
النقش إلى أن الملك "ملكي كرب يهامن" وأبنائه "أب كرب اسعد وذرا
امر ايمن" ملوك سبأ وذريدان وحضرموت ويمنت قاموا بتأسيس وبناء وتمليط قصرهم
المسمى "شوحطن" (شوحطان) في مدينة ظفار، من الأساس حتى قمة البناء.
ويعود تاريخ النقش إلى (493) بالتقويم الحميري اي(378) ميلادي. وقد ذكر الهمداني
أن هذا القصر يقع في مدينة ظفار عاصمة حمير، كما يفهم من النقش(جاربيني2) بانه
يعود للملك "ملكي كرب يهامن وابنة اب كرب اسعد" اللذين حكما في القرن
الخامس الميلادي (الحاير: 2014،192).
اثار الموقع
والهندسة المعمارية القديمة:
سبق الذكر باعتقادنا ان
الموقع بشكل عام معبد ديني صغير، ويعتبر الموقع الاثري للمعبد والمشهور (بجرف اسعد
الكامل)، وهو الملك الحميري ابي كرب اسعد المشهور، الذي سمي هذا العمل باسمه. والمعبد (الجرف) منقور ومنحوت في قلب الجبل الصخري (اللوحة : 7)
، كما للمعبد طريق صاعد (سلام) منحوت من على سفح الجبل الصاعد، والذي يمتد من اسفل الجبل حتى باب المعبد (الجرف) (اللوحة: 5).
وللموقع مدخل ( باب )
منحوت بشكل هندسي مزخرف ببراويز تحيط بالمدخل من الداخل وهي من نفس الصخر (اللوحة:8)،
بمعنى التشكيل المعماري للعناصر المعمارية ( البوابة والنوافذ والاعمدة)، عملية
بناء مثيرة من حيث التشكيل والمقاسات والاتجاهات الفنية، وجميعها تعتمد على فن
النحت والنقر في الصخر، وهي سمات معمارية خاصة في مدينة ظفار، ولعل تلك المنحوتات
الصخرية حول قصر ريدان من منشأة مائية وسدود ومرابط الخيول وكذلك (السجن) شواهد
حية على طابع فني فريد في مجال فن النحت في اليمن القديم، ويعتبر موقع (جرف اسعد )
الاثري، نموذج مميز في فن النحت والعمارة في اليمن القديم، ولا ننسى ان نشير الى
ان الموقع كان غني بالكتابات المسندية، الى جانب رسومات ومنحوتات هندسية، والمعروف
عند الحميريين عند قيامهم باي اعمال معمارية يوثقون ذلك بكتابات مسندية منذو
التأسيس وحتى الانتهاء من العمل، الا ان نقوش البناء والعمارة في هذا المعلم
الاثري قد طمست تماما ولم يبقى منها الا بقايا بعض حروف واشكال زخرفية تشهد على
ذلك (اللوحة:9 )
.
عموما للموقع مدخل مستطيل
الشكل (اللوحة :10 )
، ويتكون الموقع من الداخل من ثلاث غرف منحوتة ومنقورة في الصخر بشكل مهندم
ومتقن جدا، وفقا للهندسة والتخطيط الحميرية، والذي يبدو ان هذا العمل البديع، لم يكن عشوائي او مزاجي او مجرد تضييع وقت، بل نعتقد انه كان عمل هندسي اعتمد على دراسة علمية وتخطيط دقيق ذلك الوقت قبل الاسلام، وربما كانت البداية في اختيار الموقع وتحديدا في الجبل الاكثر ارتفاعا في ذلك المكان، والمطل على وادي فسيح، وكذلك لانه على مقربة من منابع المياه العذبة، هذا من جانب، ومن ناحية اخرى لا شك كان لدراسة التكوين الجيولوجي للجبل دور كبير في اختيار الموقع، وهذا دليل على مستوى علمي للحميريين قبل الاسلام في مجال دراسة التربة ولن نبالغ بقولنا انهم حتى عرفوا مكونات المادة الصخرية للجبل، ولعل ما يعرف من اخبار واساطير متداولة عن معرفة الحميريين متى تكون الصخور الجبلية رطبة كالطين وذلك في احد ايام السنه، هذه الأسطورة لها صداها من حيث الواقع ومقارنة مع ما وجدنا من اثار خالدة في مدينة ظفار.
وبعد اختيار الموقع ودراسة
مكوناته الجيولوجية من حيث المكونات لمادة الجبل الصخري، جاء ما نعتقد بانه العمل
الثالث والمتمثل في تحديد ووضع الخطوط الاولية لتأسيس النحت على اصول حميرية اكان
بوضع خطوط بطريقة الحز او الرسم، ولا شك انهم استخدموا ادوات بناء متنوعة خاصة ادوات
المقاسات والابعاد، اكان ذلك بالذراع (50 سم تقريبا) او (بالشبر) مسافة الكف، بالإضافة
الى استخدام اداة النقر والحز والنحت المعدنية، ولنا ان نتصور القوة العمالية التي
قاموا بإنجاز هذا الصرح الحميري العظيم، من خبراء ومهندسين ونحاتين، وفنين رسم،
وعمال اخرون، ولا شك كانت النفقات كثيرة، وربما دفعت اجور لتلك الايادي العمالية، بالإضافة
الى امدادهم بالزاد والشراب والماء وغير،
وهذا العمل الجبار ربما استغرق من الوقت الكثير ربما سنه او سنتين او اكثر.
ذلك العمل القديم على اصول
هندسية عبارة عن ثلاث غرف متداخلة، الا ان اكثرها اهمية هي ما نعتقد بانها ربما
كانت غرفة العبادة (اللوحة : 11)
، لتمييزها عن غيرها بالسقف والجدران المصقولة، ايضا
النافذتان المنحوتة بشكل غاية في الجمال (اللوحة: 12)، تم استخدام النوافذ لدخول الهواء والضوء الى داخل الموقع، الذي استطاع الفنان اليمني القديم توزيع الإضاءة والتهوية وتقسيمها بين تلك الحجرات المربعة بشكل متناسق ومنتظم وبالتساوي، كما يلاحظ (طغرة) على فتحة النافذة اقرب ما تكون لشكل حرف (ح) بالمسند (اللوحة:12 )، والاهم من ذلك العمود الهندسي المنحوت من وسط السقف للحجرة التي نعتقد انها كانت حجرة العبادة باتجاه ارضية الحجرة او الغرفة نفسها (اللوحة: 13)
، بشكل مستقيم دون اية انحرافات او تعرجات، وربما كان عنصر جمالي اضافة الى تقوية سقف الموقع من الداخل، ولكن تعرض حاليا للكسر من اسفله ولم يعد مرتبط بأرضية الحجرة من الاسفل (اللوحة :14 ) وتم توضيح الجزء المفقود من العمود المعلق باقيه في السقف
.
ولهذا العمود قصص واساطير
مرتبطة بالمرأة التي كانت ( عاقر) ولم تكن تنجب الاطفال، وقد تطرق الى ذلك بعض الباحثين خاصة الباحثة
هديل الصلوي بقولها: وأن اليمني كان ينظر للأعضاء التناسلية على أنها تمثل رمز
الخصوبة، ونجد صدى لذلك في كثير من مناطق اليمن اليوم، وخاصة الناس الذين لا
ينجبون الأولاد ويذهبون إلى الأولياء الصالحين بغرض التبرك والتوسل بهم اعتقادا
منهم بأن هناك من ربط أعضائهم التناسلية لمنعهم من الإنجاب، بالإضافة إلى ذلك تذهب
كثير من النسوة اللاتي لم ينجبن في منطقة بني مسلم إلى جرف يسمى جرف أسعد يوجد في
داخله عمود يتدلى من أعلى الجرف عُمل بشكل العضو التناسلي الذكري-(اللوحة: 15)
الغريب في الامر ان اهالي
المنطقة يطلقون على الموقع اسم ( جرف اسعد) دون معرفتهم بوظيفة هذا الصرح الاثري
القديم، والاغرب من ذلك، ان هذه الاطلال العريقة في القدم تستخدم اليوم (زرائب)
اغنام، بعد ان كانت معاقل الملوك والاقيال مثل ابى كرب اسعد (اسعد الكامل)، في
الاخير احب ان اشير الى ان التصوير للاخ عبد المجيد القحطاني برئاسة الاخ الرحال
سابر، ولهم مني كل الشكر والتقدير على ذلك العمل الجميل.
وهذا الارث الحضاري يستحق
بالفعل اهتمام الجهات المختصة في حمايته والمحافظة عليه وسرعة ترميم ما تعرض له من
تخريب، وهو من المواقع المؤهلة سياحيا، لعدة اسباب مثل موقعه الفريد والبعيد عن
السكان، وسهولة الوصول اليه خاصة والطريق اليه معبد، بمعنى اوضح انه مؤهل بان يكون
من اهم المزارات السياحية في اليمن، ولازم ان يكون له تصنيف سياحي وتاريخي..
الاربعاء 6-3-2020م
ملحوظة:
هذا المقال مستل من احد ابحاثنا بعنوان (
ظفار بين الخبر والاثر) غير منشور....
تعليقات
إرسال تعليق